"نــــون نســـــوة تستغيـــــث"
قراءة نقدية في "امرأة مع وقف التنفيذ"
 للأديبة الأستاذة فاطمة حسن البار
                  بقلم دكتور محمود عبد الناصر نصر        
**************************************************
نزف حرف لم يجد من يكفكف دمعه, اصطراخة قلب ما أن يظن الجرح قد اندمل حتى يجد من ينكأه, آهة جسد لطالما اكتوى, ولم يجد سوى الصبر بلسماً, همسة حب خجلى تتحين هدأة الليل لتصل إلى مرادها, هكذا تأرجحت لسويعات لم أرد لهن نهاية. طرقت الباب مشتاقاً لما يخفيه في دهاليزه, وغادرت الأرواق وكلي حنين إلى عودة, فالمنهل العذب كثير الزحام.

       نون نسوة تستغيث, يتفطر القلب من صرختها, يهب لغوثها, فلا يستطيع الوصول, فالطرق إليها وعرة, والأبواب دونها موصدة. وتظل صرختها تدوي وتدوي كما الوسواس في عقل مريض, ولا يستطيع طرده. تدوي الصرخة في مسامع  أخرى أطلقت ذات الصرخة, فالقلوب المتحرقة ببعضها أدرى. تتحد الصرختان في صرخة. تتلوهما صرخات وصرخات. وتزداد الطرق وعورة, ويُحكم الرتاج خلف الباب.

       وها هي إحدى بنات حواء, تطلق الزفرات حرى, تكتب بمداد قلبها, وقد حرَّق بنانها شظى السنون, و ألهبها تتابع الليالي. أطلقت آهتها, حررت لسانها, راودت قلمها, استنطقت قلبها, عصرت سني حياتها, واصطفت ما تراءى لها, فكتبت.

ترى الناقدة العالمية والناشطة النسائية هيلين سيكسَس أن المرأة حينما تكتب إنما تكتب بمدادها الأبيض. وما تقصده بالمداد الأبيض ما هو إلا ذاك السائل الأبيض الذي أجراه الله في صدرها ليكون طعام وشراب صغيرها. وحيث أن كلمات هيلين من التكثيف والمغزى بمكان, فقد أردت أن أوضح مقصدها. إنما ترى أن المرأة إذا كتبت فإنما تمتاح مما قاساه جسدها وأنى لسواها أن تشعر به.  

أقول إنما الأدب هو الابن الشرعي لعصره ومجتمعه. وإذا تنكر الأدب لعصره فبئس ما فعل. فما أروع أن تستمد الكتابة روحها من واقع معاش, واقع لا نستطيع منه فكاكاً. وما أجمل الأدب إذا استمد وميضه ووهجه وحرارته ورواءه ودماءه من نبضات قلب يهيج تارة ويهدأ أخرى. وما تهيجه إلا حياة يحياها, وما تهدئه إلا لحظات يعيشها. فإذا جحد أدبنا ما تخفق به قلوبنا, وإذا تنمر أدبنا للحظات حياتنا صار كوميض البرق, خاطف للأبصار ثم لا شيء سوى ظلام دامس. أو كما قال أستاذنا عبد الحميد جودة السحار رحمة الله عليه (كحرارة الحمى) والعياذ بالله, لا تدفئ, ولا يستدفأ بها.

إنما هي نفثة, بل نفثات,  تحشرجت في صدر واحدة من بنات حواء, تألمت بآلامهن, تجرعت ذات الكأس الذي بتن يتجرعن منه, ارتوت بدغرقه حتى الثمالة, تأوه قلبها على جمر غضاً لا يخبو له أوار, فاستلت قلمها, وقالت كلمتها. وكما قال من صدق "لا تغزو إلا بشيخ قد غزى", فما أنبل هاتيك الغزوة من فارسة حنكتها سني حياتها (بارك الله فيها كيفما ارتضاه), وما أجمل أن تؤمنا في غزوتها, فهي للقيادة أهل, ومنها نتلقى حكمة, وما أروع الدرس على يد خبيرة.

تحت عنوان "انتظار", وما أقساه ذاك الانتظار المرير, تأتت أولى القصص في (21) صفحة, لا تكاد واحدة تخلو من دمعة تجرجرها, بل تجرح الخد أحياناً. إنما هو قلب أم وقد بدأ يخفق إثر علمها بما باتت تحمله في أحشاءها, وقد طال انتظارها. خرجت من عند طبيبها على أمل, ولكن الأمل عليه غشاوة, والقدر بات يسطر ما ظل مكتوباً. انقضت شهور عَدَّتها بساعاتها وسويعاتها, وتأتت لحظة المجابهة, لحظة أن خرج الأب المكلوم يحمل فلذة كبده التي بات يمني نفسه برؤيتها, يحملها للمسجد ليغسلها هناك. واحر كبداه عليكِ فلذة كبدي. رحماك أيها القدر بقلب أم تفتت. تيدك فيما كتبت في لوحك, فالقلب ما أضعفه. حنانيك بقلب أم كلما تذكر كلمة "ماما" كاد أن... عفواً قارئي الكريم. فلن أستطيع إكمال فقرتي. وللقلب رب يحميه.

     وتمتد هاتيك النغمة الحزينة في القصة الثانية على مدار (10) صفحات تحت عنوان "الوفاء". تمتد النغمة لتطن في أذن تلك الفتاة التي اكتوت بجمر اختفى عن الأنظار تاركاً لهيبه لمن تلوى جنبها عليه. إنها تلك الجميلة (خلود) التي تقاسمت مع أهل زوجها المنزل كما الهم, بل الهموم. عاشت بين سندان الألم ومطرقة الخوف من حياة المطلقات. احتملت قسوة تلك العجوز التي تجرد من الرحمة قلبها, فلم تعد تناديها سوى بالعقور, وما لها من ذنب فيما شاءه القدر. فاض كأس قدرها, فهوت صريعة المرض, ووقف الطبيب حائراً. تقطعت السبل, ولم يبق سوى طريق الدجل والشعوذة, وما أدراك أنهم لم يطرقوا سبيلهما. أظلمت الطرق واستحلكت, وتأتت لحظة المواجهة, لحظة أن أسرت خلود لأبيها, "إني أشعر بقرب رحيلي". وما كذبت فيما حدثها به قلبها, فقد أغمضت عينيها, وأسلمت الروح لبارئها, وبسمة هنالك تلوح في وجهها المصفر, وما تبقى منها إلا ذكرى في قلب محبيها.

     وها هي (سلمى) ذات الجمال الذي لا يُقاوم تعزف سيمفونية الحزن الأبدي الذي يأبى أن ينصرف, وذلك في القصة الثالثة "الوفاء" بصفحاتها العشر. كثر الخُطَّاب وفاز بالغنيمة من كُتب له النصيب, وها هي الزوجة الشابة تصارع آلام مخاضها بين يدي أمها التي قدَّمت الستر على حساب صحة ابنتها. واكتفت بكلمات باتت تلوكها وتتمتم بها, "يا رب احفظها وخلصها". استجاب المولى وحفظها, ولكن القدر أطاح بصغيرتها. كذبوا عليك يا سلمى وأنت بين الحياة والموت. زيفوا لك الحقيقة, وقالوا لك "ابنتكِ كالقمر في جمالها". فاطمأننت ونمت في وداعة, ولكن كان لا بد من تلك اللحظة التي سترتطمين فيها بالواقع المرير, فما كان منك إلا أن سبحت في عالم كنت تنسجين خيوطه يوماً بعد يوم. آثرت الهروب من عالم ضاق بك وضن عليك بما أهداه لك القدر. أخلدت أيتها الثكلى للحلم الجميل عسى أن يظل الحلم يؤنسك. 

     وها هي صرخة أنثوية تأتي مدوية في "رحلة الوداع" في سبع صفحات. أتت الصرخة هاتيك المرة من (راوية), تلك التي وقعت تحت سيف مسلط من زوجها الذي ما زال يهددها بالزواج من أخرى إن لم تحمل وتأتي له (بالعيال), كما لو كان الأمر بيدها. وها هي تقف أمام جدران حزن أسود اعتراها جراء تأخر إنجابها. ها هي طاقة القدر تبش في وجه البائسة بتوأم. نبض قلب أحدهما فأثلج صدر أمه المتمنية, وخبا نبض الآخر, فأتى إلى عالمنا جثة هامدة لتضمه الأم المكلومة إلى صدرها متمتمة "لم أسمع صوتك الذي انتظرته طويلاً. لكن حسبي أني متعت ناظري برؤياك". عسى أن تؤنسها صورته, فتخفف الكسر عن قلبها.

قدمت القاصة مشاهداً أجيد تمثيلها وإخراجها على مسرح سردها. نون نسوة اجتمعن, كلُ تخرج ما في جعبتها, والجعبة حبلى كما قلب حاملتها. يبدأ المجلس النسوي عقد جلساته للتنفيس عما طفح به صدر كل حواء. أقبلن طواعية وعن طيب خاطر للمشاركة في المجلس. ها هن بنات حواء يوشوشن في هدأة وسكينة. يبحن بما اكتوت به قلوبهن. يمتد البوح ويطول مغطياً القسط الأكبر من المجموعة (أكثر من 100 صفحة) في حوار ديمقراطي حر جريء أدارت القاصة دفة أحداثة فأجادت إدارتها بمهارة واقتدار. فها هي تتقمص دور المضيفة في أول جلسة, تتولى زمام الأمور لتضع كل شيء في نصابه. أعلنت منذ اللحظة الأولى فلسفتها وهدفها ألا حرج في بث المشاعر وإطلاق الأحاسيس ما دامت لا تخل بالآداب أو الحشمة, أو تخرج من دائرة الحلال. وفي خضم المساجلات النسوية تعرض لنا القاصة وبشجاعة منها جلسة كاملة خصصتها للمعجم الذكوري أو الفحولي (كما طابت لها التسمية), حيث تضع الخطوط الفاصلة بين ما هو أنثوي خالص الأنوثة وما هو ذكوري يتباهى بفحولته, وهناك منطقة التأرجح أو البين بين. وهنا نسمع همس هاتيك الحواء (أم شريف) وقد أوجعها فراق زوجها (أبي شريف) الذي لم تعد علاقته بها تتعدى غرفة النوم, فخروجه المتكرر جعلها تستشعر تقصيراً في حقها وسبب لصدرها الكثير من الضيق, فباتت تشعر بشرخ يتعاظم في علاقتها بزوجها يوماً بعد يوم. فتأتي وصية المجلس النسوي جد حكيمة, "صبراً أم شريف". إن غداً لناظره قريب.

تأتي (سماح) لتدلي بدلوها في حواء المجلس صانعة لبنات جنسها عقوداً من الحكمة يعلقنها في أعناقهن. فما كل الرجال لهم نفس الطبع, طبع الوحوش. وها هي تهدي زوجها وردة حمراء. عسى أن تجد كل زوجة وردتها, ويجد كل زوج من تهديها إليه.
تستلم كل من (آمنة) و(حبيبة) و(هدية) و(هناء) و(وردة) و(أم عمر) دفة الحديث لبرهات متواترة. وفي كل مرة يلهج لسان أخاله ظل معقوداً خوفاً وخشية مما قد لا يدري كنهه. وفي كل مرة تزيح إحداهن الستار عما بات يعذب الجسد كما الروح. وفي كل مرة تترى إلى مسامعنا همسات العتاب حيناً والمواساة حيناً والمؤازرة أحياناً أخرى. وبين لحظة وأخرى تمتعنا القاصة بحكمة عركتها حنكة السنين وما تبديه بين لياليها وبزوغ فجرها. إنما هي صرخات ترسف في أثقال. تبحث عمن يحملها. تنقب عمن يسمعها. وها هي قد وجدت الحامل والمستمع. عسى أن تجد في الغد القريب من يحنو عليها, ويضمها إلى صدره, فتزول عنها رجفتها, وتزوي من على وجهها تلك التكشيرة العكرة, وتداعب محياها تلكم البسمة الخجولة الحيية العذبة.   

سويعات ماتعة قضيتها بين دفتي الكتاب, وكنت لا أود الانتهاء من قراءته. فالموضوع شائك, وقد تأتت معالجة القاصة له بحرفية الخبيرة بمكامن النفس البشرية, والأنثوية على وجه التحديد. آثرت القاصة إتباع تقنيات سردية امتازت بالنَفَس الطويل, فهي بصدد تصوير مأساة أو محنة, فلم يكن أمامها سوى توسيع عدسة رصدها, لتأتي الصورة كما أرادتها, جد واضحة, تنم عن خلفياتها, وتلقي الضوء على كبير الحدث كما صغيره, فالحبكة في يدها معقودة.

أتقنت القاصة بعضاً من أساليب المعالجة المسرحية حيث تهيئة المكان والزمان لتلقي الحدث. ولكي يأتي الحدث ناضجاً عولت القاصة على أطراف الحوار تتجاذبها شخصيات العمل الفني, فيكون الحوار مسبباً لتأجج الحدث, ولإيضاح خبايا النفس البشرية, وقد تراكمت عبر السنين.

لم تأت مواقف الحدث في أي من القصص التي وقعت عيني عليها من فراغ, وإنما جاءت من واحدة من بين الملايين من بنات حواء (أقصد القاصة بالطبع). أنعم الله عليها بحس مرهف, خاصة فيما يتعلق بخلجات نون نسوة عاشت وما زالت تعيش في مجتمع حرمها من كثير من حقوقها, وما تزال تتحلى بالصبر, وما تزال تنظر للغد, وما تزال أمنيتها تداعبها, عسى أن يأتي اليوم, ويتحول الحلم لواقع ملموس.
أحكم وعن قناعة بأسلوب للقاصة سهل ممتنع. من يقرأه يظن أنه آت بمثله, ولكن أنى له, وهذا عهدنا بالأديبة لسنوات وسنوات. فهذه ليست إلا حبة في عقد تنظم لآلئه, عاماً تلو الآخر. أراها وقد وهبت سني حياتها لصناعة الجميل في عالم الأدب. فيبارك الله في عمرها, ويجزيها عن كل دقيقة تقضيها من أجل قراءها خيراً منها.

لغة القاصة ليست بخافية على أي من محبيها. فهي كما العهد بها تفتش في خزانات لغتها بحثاً عن حرفها وكلمتها. فلا تأتي كلمة إلا بعد فحص, ولا تجاور كلمة أختها إلا بعد تمحيص. وهذا عهدنا بمن كرست جل اهتمامها للغتها, فصارت (ولتسمح لي أن ألقبها بذاك اللقب) "ناسكة الأدب المتبتلة في محاريبه". فهنيئاً لها ولقرائها, وهم كثر.

صدرت المجموعة عن دار الحضارة للنشر والتوزيع بالعاصمة السعودية الرياض في طبعتها الأولى عام (2010) في (167) صفحة. ليست هذه خبرة أديبتنا الأولى في حرفة الجمال, جمال الأدب. فلها من الأعمال ما يشهد بحنكتها ويزيدها شموخاً. فقد صدر لها بالأمس القريب "بلون الرماد" (مجموعة قصصية) عن دار الكفاح للنشر والتوزيع. وقد قامت ذات الدار بطباعة "روح الإبريز: سفير لكل القلوب", خواطر ترفرف في رحاب أقدس عاطفة تدب في جوانح من أنعم عليه مولاه بصفة إنسان, إنه الحب الأقدس. وللأديبة مساهماتها المشهود لها في كافة الأوساط الأدبية. فمقالاتها, وقصصها, وتعليقاتها تملأ الصفحات الأدبية المطبوعة منها والإلكترونية على حد سواء. إنما هي بحق طاقة إبداعية واعية واعدة. يحدوها الأمل, ويخفق على هامتها حماس الشباب (أدامه الله عليها). لطالما أمتعتنا, وما زالت. فجعبتها أبداً عامرة. والبديهة دوماً حاضرة. وآمالنا معقودة عليها, ولآليء الحسان ما زالت رهن بنانها, ونحن في الانتظار, ولن يطول انتظارنا.
           اللهم اغفر لنا وارحمنا.     
دكتور محمود عبد الناصر نصر       
25/10/2013                    




Comments (0)