لون الموت 
.. 
كان مساءً جميلا مفعماً بالحيوية و الفرح و سعادة ثاني أيام عيد الأضحى؛ كما كل البشر يرسمون فرحة على وجوه أطفالهم أردنا هذا و كنا في أجواء المدينة اللطيفة .. 
مدينة الورود .. الطائف .. و عبر تلك النسمات الباردة تنشقنا عبيرا و فرحا و استمتعت ابنتاي بمدينة الألعاب الترفيهية. 
كانت الساعة تقترب من التاسعة والنصف من مساء الأربعاء و بدأ الجوع يراود الجميع و يدق نواقيسه فتوجهنا  لوسط مدينة الطائف و اقتراحات العشاء تطرح نفسها  و تمني النفس؛ ساد صمت عجيب لدقيقة لم أفهم معناها و كأنها استراحة محارب أو دقيقة لالتقاط الأنفاس. 
كل شيء يسير على ما يرام خلال هذه الدقيقة العجيبة و على مسارنا الأوسط نتوجه للمقصد بسرعة معتدلة؛ لكن لا فرار من القدر و لا نجاة من المكتوب؛ لا أدري هل أتممنا الدقيقة أم دخلنا دقائق موت عارم. 
اصطدم أحدهم بسيارته المسرعة بنا فأزاح سيارتنا عن مسارها؛ كانت لحظة كهزة كهربائية تفرقعت بسمتنا و تشتت عيوننا و لم ندرك وقتا لنصرخ أو نفهم الأمر و ما زالت سيارتنا تتخبط وإذا بذات الشخص يصطدم بنا ثانية بشكل أقوى دافعا إيانا هذه المرة  بشكل مخيف جدا  ثم يطلق سيارته لريح الهرب. 
هنا اختلطت أصوات صغيراتي و علت؛ صرخت أنا بعد زوجي الذي فقد السيطرة على السيارة .
لحظات مرعبة التفت سيارتنا بشكل مربك و شيء مخيف نتوجه إليه ثم خرجت عن مسارها بسرعة كأنها قذيفة رُميت؛ لنسير على الرصيف المجاور ثم نخرج على الرمال و نصطدم أخيرا بلحظات قاسية؛ ارتطمنا بلوحة تعريفية كبيرة و بسرعة دخول السيارة بين عمودي اللوحة الصلبين كانت ثواني لا لون لها و رائحة موت تغمر المكان؛ كنت مدركة لكل هذه اللحظات حتى صار اللون أسودا أمام عينيّ؛ تبددت حينها كل لحظات الدنيا ..
 أحسست بأن الموت يعانقني .. ينتزعني .. و طنين مزعج ملأ لحظاتي؛ شعرت ببركان ينفجر بحرارة أمامي ففقدت الوعي و لم أدرك كم مرت من دقائق صامتة حينها  فتحت عيني بصعوبة و التفت بصعوبة أفظع لزوجي .. رأيته غائبا عن الوعي فوق الوسادة الهوائية الممزقة .. انخلع فؤادي .. ناديته الأولى و الثانية فلم يجب؛ جالت في نفسي أشياء موهنة و ارتسمت أبشع لوحة .. 
رفعت صوتي في الثالثة و عبرة تخنقني فتحرك جفناه .. أدركت أنه ما زال على قيد الحياة فتبتسمت له وقلت الحمد لله؛ ثم نظرت للخلف أردت الاطمئنان على زهراتي ففي أي زاوية يرقدن؛ أفزعني صوت البكاء و الدم الملطخ على وجه صغيرتي .. كانتا متعانقتين؛ ألزقهما الفزع و ألصقهما الحدث المخيف في احتضان مدهش و حب متأجج.
 عدتُ أنظرني .. أبحث عني .. عن بعضي .. ألتقط أنفاسي التي لا أقدر عليها فشهيق عسير في وقت حاجة يشعر بالبكاء و ضعف الحيلة .. يوهن الحياة و الأمل .. 
حركت كفي الذي لم يصب يمينا .. شمالا .. أبحث عن نسمة تنتشل اختناقي و تعيد حياتي .. شممت رائحة دخان و إذا بعيني تنظره أمامي لا أعرف مكانه و لكن أدرك أن ثمة خطر .. بصوت متألم متقطع طلبت من فتياتي النزول بأسرع ما يمكن و تحاملت على نفسي متكأة على لا شيء من قدرتي سوى لطف الله و كفى بالله وكيلا. 
خرجت أتهدج بين خطاي حتى ألقيت نفسي على الرصيف .. جلست .. التقطت شهيقا نقيا بصعوبة بالغة و مددت ساقيّ مستسلمة لبدايات العجز ..
 يا إلهي لم أقدر على الحركة بيسر و لا التنفس .. كن معي يارب؛ حينها لا سؤال يدور في ذهني غير كيف زوجي؟ .. أخرجوه .. أخرجوه.
تجمهر الناس بشكل سريع جدا و من كل حدب هم ينسلون؛ الكل يقول: (حمدا لله على سلامتكم .. أنتم بخير .. زوجك .. بناتك .. اطمئني .. لرتاحي) و أنى للراحة من سبيل حينها. 
احتضنت ابنتيّ بذراعي محاولة تهدئة الخوف والرعشة التي تنفضهما و أنا في خوف و نفضة تكاد تخلع قلبي. 
احتلني برد فجال بروحي الخائفة ليصطك فكاي و تكاد أطرافي أن تطير لكنني في موقف عليّ أن أشتد فيه فخاطبت نفسي (فاطمة تماسكي .. ليس وقت العبث الآن). 
أخرج الرجال زوجي لا يدرك شيئا مما حوله و لا يدري أي كابوس مزعج هو فيه! كيف و لم وما هذا؟ أسئلة حيرى تلفه .. جاؤا به ممسكين و أقعدوه جوارنا .. سألني .. فاطمة: أنت بخير؟ فأجبت بنعم. 
ما زال صوت بكاء ابنتي لا ينقطع و دهشة الخوف و الألم تعبثان بهما. 
أيادي تتداخل جواري .. نساء .. رجال .. أطفال .. الكل يمد بشيء .. ماء .. لواصق جروح .. عطور .. شاش .. محارم ورقية .. طعام .. والكل يحاول أن يعالج فقد أرعبتهم دماء وجهي و الزجاج المطحون عليه .. عبائتي المتمزقة و غطاء وجهي المهترئ .. يدي التي امتلأت جروحا و وجه طفلتي المنتفخ. 
رجوتهم أن يبتعدوا فلم أعد أتمكن من التنفس ولا حيلة لي بالكلام معهم .
كانت ابنتي تنفض الزجاج من وجهي وتبكي .. حينها ابتسمت لا أدري كيف و لكني همست لها الحمد لله نحن بخير .. نحن بخير. 
بعد دقائق حضرت الشرطة و سيارات الإسعاف و الإطفاء .. و بدأ شمل الناس يتفرق فدخلت أنسام جديدة إلينا ..
عاد زوجي يسألني: هل أنت بخير .. قلت نعم .. نعم .. و مازحته (الحمد لله ما متنا) 
بدأ المسعف بأسئلته ثم طلب مني أن أصعد سيارته فقلت لا أقدر؛ أنزل السرير لأُحمل؛ لا أدري كيف سكنت في اللحظة و أغمضت عيني لأرى لوحة كتلك التي سأحمل عليها حينما أموت . 
أصوات كثيرة في ظل صمتي و أيدي ترفعني في ظل عجزي؛ انتبهت على أضواء غرفة السيارة .. نظرت وقلت يالغبائك ألا تفهمين .. مازلت حية. 
انطلقت بنا سيارة الإسعاف .. كنت مع ابنتي و حمل زوجي في سيارة أخرى .. كان المسعف لطيفا يقول: أنت بخير لا تخافي فهدأت قليلا .. شعرت بصعوبة في التنفس  فزودني بالأوكسجين .. شعرت ببعض الراحة . 
كانت سرعة سيارة الإسعاف مربكة لجسدي المتوجع و كانت الشوارع السيئة الغير مهيأة لسيره تجبره على الاهتزاز و تجبرني على الصراخ .
تمنيت أن تكون مسعفة جواري أمسك يدها فتطمئن نفسي .. تمسح دمعاتي المتساقطة .. تقترب بروح الأنثى لروح الأنثى .. لكن لم يكن ذاك. 
و صلت السيارة للمستشفى و بدأت السرعة الخاطفة في إخراجنا و لنبتدأ مغامرة في مستشفى الملك عبدالعزيز التخصصي و تبدأ آلام جديدة. 
أغمضت عيني و لم أرغب في مشاهدة البشر الذين أمامي و لا الذين في ممرات المستشفى و لا أي أحد و تركت لهم نظرات العطف التي يرسلونها. 
في زاوية غرفة طوارئ النساء سلمني رجل الإسعاف و غادر وليته ما فعل فقد طال انتظاري للطبيب. 
 فقدت التواصل مع زوجي و ابنتاي فكل في مكان يخضع للفحص  لكني لم أفقد تواصلي مع من بقي معي في هذه الساعة الحرجة , شكرته بملئ القلب و الروح سكنت بقربه و رددت أحبك ياللـــــــه . 
و الآن بعد عشر أيام من الحادث أنا في قمة الفرح بدروس تعلمتها و معاني تحققت لي و أناس صدقوني في ساعة الشدة فشكرا للجميع .

Comments (6)

On 28 أكتوبر 2013 في 2:50 م , دكتور محمود عبد الناصر يقول...

حمداً لله على السلامة أديبتنا الغالية. قدر الله وما شاء فعل. أتم الله شفائكم, وحفظكم من كل مكروه وسوء.
أخوكم

 
On 28 أكتوبر 2013 في 5:02 م , الأديبة / فاطمة البار يقول...

سلمك الله أستاذي و عافاك و لا أراك مكروها ..
تعلمت الكثير من هذا الدرس و هذا ما حدا بي أن أنشر قصتي فيه .

 
On 28 أكتوبر 2013 في 7:16 م , غير معرف يقول...

تجربه مخيفه فعلا
لكن لطف الله احاط بكم رغم كل الخوف
التجارب المخيفه عندما تمر بسلام يعقبها سعاده الشعور بمعيه الله سبحانه وتعالى
وفاء

 
On 29 أكتوبر 2013 في 11:35 ص , الأديبة / فاطمة البار يقول...

تفهمينني دائما ياوفاء ...الاحساس بمعية الله سبحانه هو أجمل مافي الحدث ..وقاك الله و من تحبين

 
On 2 نوفمبر 2013 في 10:50 ص , غير معرف يقول...

الله لطيف بعباده
حمدا لله على كل حال وسلامتكم

أم معتز

 
On 4 نوفمبر 2013 في 8:03 ص , الأديبة / فاطمة البار يقول...

سلمك الله أم معتز و لا أراك مكروها ..لله الحمد من قبل ومن بعد